/العمانية/
الكاتب زهران القاسمي: نحن
مسكونون بالمكان كونه يحتوي على الثراء الكبير الذي ننهل كلنا منه
مسقط في 25 نوفمبر /العُمانية/
“الفنون كلها تخرج من كوّة واحدة، فهي تعبير عن خبايا النفس البشرية في
تقاطعاتها مع العالم الخارجي أيًّا كان هذا العالم، وهي تعبير عن وجود الإنسان في
تلك اللمحة البسيطة التي تسمى حياة”، بهذه العبارة وتفاصيل أخرى حيث الشعر
والسرد؛ نقترب أكثر من الأديب والروائي زهران القاسمي، الحاصل على الجائزة
العالمية للرواية العربية 2023، عن روايته “تغريبة القافر”، والذي صدر
له إصدار آخر بعنوان “الروع”، مرورًا بأعمال أخرى بين الشعر والسرد لا
تقل أيضا أهمية عمّا سبقها، وهي: “أمسكنا الوعل من قرونه”،
و”الهيولى” ، وأغني وأمشي”، و” يا ناي”، و”سيرة
الحجر”، و “جبل الشوع”، و “الأعمى” ، و”
القنّاص”، و “جوع العسل”.
في هذا السياق يتحدث القاسمي عن
العمل الروائي الجديد “الروع”، وواقعه، والرؤية السردية الجديدة في هذا
العمل، ومدى تقاطعه مع الأعمال الأخرى كـ/ جوع العسل و / وجبل الشوع/ و/
سيرة الحجر / و / القناص/، ويقول: “الروع كعمل يختلف عن الأعمال السابقة من
خلال فكرته، فهو يشتغل على فكرة الخوف الذي ينمو في النفس البشرية منذ الصغر،
الخوف الذي يكبر معنا ويرافقنا ليل نهار، الذي يسكن تحت ملابسنا ويتلصص على الحياة
من خلال عيوننا، الخوف الخام المجرد والمكبوت، الخوف من الخيالات والظلال والشخوص
والحكايات التي سمعناها، الخوف من الأماكن المظلمة والكهوف والشخوص، ذلك الخوف
الذي يدخل من خلال العيون كصورة، أو من خلال السمع كحديث في أفواه الآخرين، كيف
يخرج فجأة من أعماق الذات ويتشكل فزاعة، تلك الفزاعة التي نصنعها في البداية
لإخافة الآخرين، ثم نعود لنخاف منها.
ويضيف: الروع أيضا في
الميثولوجيا الشعبية هو ذلك الجنيّ الذي يستفرد بالإنسان وقت الليل، يظهر له
بأشكال مختلفة وبخيالات وأصوات محاولة إخافته، فإذا سقط في لجة الخوف زاد عليه
الجرعة حتى يترك المكان أو يسقط، وقد تكون هذه الأسطورة حاضرة كحكاية داخل النص
ولكنها ليست الفكرة، إنما الروع هنا كما يطلق على الفزاعة محليا أيضا، فالفزاعة
روع لأنها تروّع وتخيف الآخرين، وهذا هو لب الموضوع وفكرته وفلسفته، كيف يصنع الإنسان
بيديه شيئا ما، ثم يعود ليخاف منه، والروع كرواية قصيرة أو كما يطلق عليها
“نوفيلا”، وهي من الأعمال التي تشتغل على الشخصية الواحدة والحدث
الواحد، عمل مكثف جدا بدون زوائد، حاولت التركيز فيها قدر المستطاع على الفكرة
المشغولة، وعلى الرغم أنه بصوت السارد العليم كما كثير من الروايات، إلا أنه يمتاز
كما قلت بتكثيفه، ليس هناك شخوص رئيسية أخرى في العمل سوى الشخصية المحور، وهي في
فكرتها ترسم تلك العلاقة بين الفزاعة وصانعها، مع الإشارة إلى سيرة الخوف التي
تشكلت للشخصية منذ الطفولة”.
ويشير القاسمي إلى إن البيئة
التي تدور فيها أحداث الرواية ما زالت في القرية العمانية وهي تتشابه وتتعالق مع
القرى الزراعية في أي مكان، هناك اشتغال على البستنة وما يعاني فيها الفلاح من
أضرار تلحق بمزروعاته من حشرات وطيور وحيوانات، وكيف يستطيع أن يحافظ على تلك
المزروعات من العبث، وربما تقاطعت مع الأعمال الأخرى في فكرة البيئة السردية
والمكان القروي، لكنها في الحقيقة تنحو منحى آخر من خلال فكرتها التي لم يتطرق لها
من قبل، فلا ضيرَ أن نبنيَ أعمالنا في المناخ الكتابي ذاته – إن كان هناك فكرة
جديدة تشغل الهم الكتابي -.
ونظرا إلى أن زهران القاسمي – إلى
جانب كونه روائي – هو شاعر وله أكثر من 5 إصدارات شعرية؛ يشير هنا إلى سياقات
التقاطع بين الشعر والرواية في تجربته الأدبية، والأقرب إلى روحه في سياق النتاج
الأدبي، ويقول: “الفنون كلها تخرج من كوّة واحدة، فهي تعبير عن خبايا النفس
البشرية في تقاطعاتها مع العالم الخارجي أيًّا كان هذا العالم، وهي تعبير عن وجود
الإنسان في تلك اللمحة البسيطة التي تسمى حياة، لذلك حاولت أن أمزج الشعر بالسرد
والعكس، مع أنني بدأت شاعرا إلا أن القارئ للنصوص الشعرية سيجد أنها تحتوي على
الكثير من السردية التي لا تخل بالشعر، كذلك عندما بدأت أكتب في الرواية حاولت
جاهدا أن يكون الشعر موجودا من خلال اللغة أو من خلال الحدث، هكذا أحاول مزج
كليهما معا لتقديم صورة ولغة خاصة بي، تتعالق مع الموضوع والمكان والحدث”.
ويضيف القاسمي: “أما ما هو
الأقرب إلى روحي فهو الشعر بكل تأكيد، لأنه كما يقول هاروكي موراكامي في كتابه
مهنتي في القراءة أن كل إنسان يستطيع كتابة الرواية، في حديثه عن التجارب الروائية
التي باتت تغري الكثيرين، لكن من وجهة نظري ليس للجميع أن يقولوا الشعر، فهو يحتاج
إلى تلك الروح الخاصة التي تحمل في طياتها سرّا لا يملكه سوى الشعراء، فالعرب
قديما اقتربوا من تفسير الشعر على أنه إملاءات من أرواح مخفية سموها “الجن”،
ووضعوا لها مكانا خاصا أطلقوا عليه “وادي عبقر”، فكانوا يبررون أن من
يقول الشعر ممسوسا ويلقى في هاجسه الشعر، فالشعر هبة، ليست للكل، أما أنا فأحب
الشعر لأنني استشفي به من كل ما يمر عليّ من مصاعب الحياة”.
وفيما يتعلق بسياق الكتابة،
وعودة “زهران” شاعراً ومستقبل كتابة الشعر في ظل تزاحم وقع الرواية
عموما وحديثه عن استسهال البعض لكتابة الرواية في ظل تراجع إنتاج الشعر يقول: “ما
زلت أكتب الشعر باستمرار، فهناك مجموعتان شعريتان جاهزتان للنشر قد أفكر في نشرهما
قريبا، لكنني تريثت حتى أعطي كتابي الأخير حقه في القراءة والانتشار وبعد ذلك
سيأتي دور الشعر في النشر، أما عن مستقبل الشعر في ظل تزاحم الرواية فأعتقد أن
الشعر من الفنون الخالدة، فلقد واكب ورافق الإنسانية منذ مهدها الأول، ومرّ عبر
تلك العصور وتغير وتبدل وتطور بتطور اللغة حتى وصل إلى عصرنا، وهو باقٍ بقاء
البشرية، ولا علاقة له بالفنون الأخرى مهما زاحمته، فالرواية والسينما والفن
التشكيلي وغيرها من الفنون لها مريديها وللشعر مريدوه أيضا، ولا أظن أنني قلق
عليه، فهو كما قلنا لها خصوصيته المتفردة والتي تستطيع أن تتأقلم مع الظروف”.
ويؤكد بقوله: “لا أعتقد بأن
الشعر تراجع، هنالك شعراء ما زالوا يكتبون الشعر وهنالك دواوين تنشر دائما، ربما
سحبت الرواية الضوء وهذا بالطبع بسبب التسويق لها، لكن الشعر حاضر دائما، مهما بدى
للجميع أنه تم تهميشه، وعودا إلى فكرة النخبوية فالشعر منذ الأزل نخبويا لا يقرأه
الجميع، بل له قراؤه ومحبوه”.
وفيما يخص العمل الروائي،
واقترابه من واقع الحياة المعاش، وكيف له أن يكون أداة لسبر أغوار هذا الواقع،
ونقله لمعنى وجود الحياة وطرحه لأسئلة فلسفية عميقة تختص بواقعنا البشري؛ يقول
القاسمي: “كل عمل روائي هو عمل تخييلي تماما مهما استقى من الواقع، ومهما
اقترب من الحياة، الرواية عمل خلاق يفترض منها أن تشق لها مكانا مختلفا عن الواقع
وألا تعكسه تماما، بل أحيانا تناقضه، فما فائدة أن نخلق عملا يشبه الحياة الواقعية
التي نعيشها”.
ويوضح: “من وجهة نظري
فالعمل الروائي يبدو بسيطا ومغويا وعاكسا للواقع وهذا ما يستشعره القارئ، هو يقع
في شرك التصديق بأن الحكاية هذه حدثت بالفعل، هذا المكان الموصوف في الرواية
موجود، هذه الشخصيات من لحم ودم، هنالك روح حية تسري بين صفحات الكتاب تجعل القارئ
يطارد الحروف، لكن كل ما في ذلك الكتاب لا يمتُّ بصلة للخارج، هذه هي الصنعة التي
يملكها السارد، وإلا كيف نجعل القارئ منكبًّا على تتبع تفاصيل الشخصيات في كتاب
تزيد أحيانا صفحاته عن الألف صفحة، والرواية عمل فني يحوي في داخله كل العلوم،
العلمية منها والإنسانية، لذلك سنجد الرواية التي تتكئ على علم النفس في تشريح
حالة شخصية من الشخصيات، ونجد التاريخ حاضرا فيها أيضا، وكذلك علوم الطب والفلك
والموسيقى والجغرافيا وغيرها من العلوم، وهناك العديد من الأفكار تكمن في داخل
العمل الروائي، تختص بالوجود وعلاقة الإنسان بالواقع وبالتراث والتاريخ والوطن،
العديد من الأسئلة التي تتضمن الأعمال الروائية وقد يُبنى عمل روائي على فكرة
فلسفية واحدة، هذا متروك للكاتب في تقرير ماذا يريد أن يقول من خلال كتابته”.
ولأن الراصد لأعمال
“القاسمي”، يجد أنه مسكون بروح المكان وهذا ما يلمسه المتتبع لنتاجه
الأدبي عموما (شعرا أو رواية)، وهنا يشير إلى تلك الجغرافيا التي من الممكن أن
تعطي العمل الإبداعي حقه في الخروج بوقع ابتكاري مغاير، قائلا: “المكان عنصر
من العناصر المهمة في الأعمال الروائية ليست فقط حكرا على تجربتي، فالمطلع على
الكثير من الأعمال الروائية العالمية يجد أنها تبرز المكان حتى يكاد القارئ أن
يراه من شدة الوصف، ولكنني أريد أن أنبه لفكرة مهمة هي أن المكان داخل العمل
الروائي مهما كان قريبا في وصفه بالمكان على أرض الواقع لكنه أيضا لا يمت بصلة له،
أما عني فأعتقد بأنني مسكون بتلك التفاصيل التي أشعر بجماليتها وأنا أكتب العمل
الروائي، فأنا الإنسان الذي يحب المشي والتأمل، وأستقي الكثير من التفاصيل التي
أشاهدها لأعيد كتابتها في أعمالي، وقد انتهجت هذا اللون وأعجبت به وقررت أن يكون
مشروعي الكتابي، هذا ليس عبثا بالطبع، فالشخصيات التي أكتبها لها علاقة بذلك
المكان، وبالتالي هناك علاقة نفسية وفسيولوجية تتضح جليا من خلال الكتابة، ففي
رواية القناص مثلا، نجد شخصية القناص أقرب لتلك الطبيعة الجبلية الصلبة والقاسية
والصامتة، وهذا ما أخرج شخصية القناص متأثرة بالمكان الذي تعيش فيه، وهكذا، نحن
“ككتّاب” مسكونون بالمكان لأنه يحتوي على ذلك الثراء الكبير الذي ننهل
كلنا منه، المكان هنا ليس بالصفة السيئة والسلبية بقدر ما يحمل تلك الصورة
الجمالية التي يستقي كل منا من معينه، وهذا ليس عيبا بل أعطى صورة خصوصية لأدبنا
في سلطنة عُمان، مقارنة بالكثير من الأعمال الأدبية على مستوى الوطن العربي التي
تشعر فيها بالتغريب، وبأن شخصيات العمل لا تقف على مكان بعينه، وهذا مهم جدا”.
ولأن العمل الروائي مسؤول عن
التحولات الاجتماعية والفكرية التي تطرأ على المجتمع، خاصة ونحن نعيش في خضم
الانفجار المعلوماتي وواقع الذكاء الاصطناعي، يشير القاسمي إلى الكيفية التي يعمل
عليها العمل الروائي لأن يبقى أكثر أهمية وهو ينغمس ويشرّح ماهية تلك التحولات، وحيث
يجب أن يكون هناك تقاطع بين العمل الروائي وما تمليه علينا التكنولوجيا الحديثة،
ويقول: “العمل الروائي هو عمل فني يعتمد على الخيال، وهو بالطبع ينهل من
الواقع ويوازيه في تحولاته وتطوره، وهذا يعتمد على الفكرة وزمنها المطروحة داخل
العمل، فإن كانت الفكرة تتحدث عن واقع حالي به كل وسائل التكنولوجيا الحديثة
ستجدها حاضرة كأدوات، وقد تقفز الفكرة زمنيًّا لتتحدث عن المستقبل وتصنع لنا عالما
“ديستوبيا” بامتياز قائما على خيال الكاتب، وقد يخترع له أدواته أيضا
التي قد لا تكون موجودة على الواقع.. الروائي يستفيد دائما من كل هذا الثراء
المعلوماتي من حوله لخلق عالم روائي موازٍ”.
وحول استشراف المستقبل من خلال
العمل الروائي والتنبؤ بما سيمليه علينا واقع هذا المستقبل لاحقاً مع إحداث دهشة
في التقنيات العامة للكتابة الروائية وتقديم معرفة جديدة يقول القاسمي: “هذا
يعتمد على المخيال الأدبي، هنالك أعمال أدبية كتبت في الماضي استشرفت المستقبل
الذي نعيشه الآن، منها ما حوّل إلى أعمال سينمائية، عن فكرة التواصل الحر وإرسال
الرسائل عن طريق الهواتف النقالة مثلا، حتى نزول الإنسان على سطح القمر سبقه
الخيال الكتابي لذلك”.
وفي شأن الرواية والتراث، وإعادة
إحياء التراث الثقافي والتاريخي وآليات دمجه في سياق سردي واحد يوضح:”يستفيد
الروائي من كل هذا الكم الإنساني المعرفي الذي قرأه، وهذا يعتمد على فكرة عمله
وكيفية الاشتغال عليها، فهنالك الأحداث التاريخية، والثقافة الشفاهية، والعادات
والتقاليد والأدوات، والبحوث المكتشفة من الآثار القديمة التي لم يكن يعرف عنها
شيئا لولا نبشها، والكتابات الموثقة في الحجر من لغات بائدة تحمل في طياتها أخبارا
وسيرا ومعلومات عن تلك الفترة، كل ذلك يستطيع الروائي استغلاله في إيجاد عالمه،
وقد نستطيع كتابة رواية تاريخية ولكن أيضا لابد أن نكون حذرين في استخدام هذا الكم
من المعلومات، ولا نأخذ إلا ما نحتاج إليه ليخدم الفكرة، فنحن لسنا في كتابة عمل
توثيقي، الرواية مهما وثّقت بعض الأحداث والوقائع التاريخية فهي لا يعتد بها، إنها
تتكئ على تلك الأحداث لإيجاد عالم ربما يناقض كل ما درسناه عن التاريخ”.
وفي ختام حديثه يتحدث القاسمي عن
الأدوار التي يمكن أن يقوم بها العمل الروائي اليوم لمواجهة التسطيح الثقافي
وتقديم رؤىً عميقة ومعمقة، مع الحفاظ على روح الهوية الثقافية وعمقها الحضاري
والفكري ويقول: “الرواية هي فن الحاضر، لذلك أطلق عليه الرواية المدينية، فهي
انبثقت مع العصر الحديث، وتطورت معه، وباتت من أحد الفنون التي أقبل عليها الناس
في كل العالم، وأن هناك الكثير من الروائيين الذي برزوا في بلدانهم لم يكن أحد
يعرف عن تلك البلدان شيئا لولاهم، وهذا دليل كبير على أهمية الرواية، فمثلا صار
لعُمان في السنوات العشر الأخيرة صيتا؛ إذ ظهر فيها جيل روائي بدأت أعمالهم في
الظهور وصار لهم مقروئية عالية في الخارج، فالبلدان بفنانيها وكتابها ومثقفيها هم
الذين يحملون على عاتقهم إرث المكان وصيته وبقاءه”.
/العُمانية/النشرة الثقافية/
خميس الصلتي