السلطنة اليوم – عادل بن رمضان مستهيل
في زحام الحياة وصخبها، تظل العلاقة بين الوالدين والأبناء أحد أقدس الروابط التي أُمرنا بحفظها وصيانتها. لكن للأسف، هناك من ينسى أو يتناسى ما بذله الوالدان من تعب وشقاء، فيقع في براثن العقوق، متجاهلًا ما أمر الله به من برهما والإحسان إليهما.
لقد جعل الإسلام بر الوالدين من أعظم القربات، وعقوقهما من أكبر الكبائر. قال الله تعالى:
“وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا” (الإسراء: 23).
وفي آية أخرى، يقول سبحانه:
“وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ” (لقمان: 14).
أما رسول الله ﷺ فقد أكد في أحاديثه الشريفة على ضرورة بر الوالدين وحذر من عقوقهما، فقال:
“ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين” (رواه البخاري ومسلم).
يروى أن مالك بن دينار، العالم الزاهد المعروف، كان له جار يعاني من عقوق ابنه. كان الابن يعامل والده بقسوة شديدة، ويتلفظ عليه بألفاظ نابية، بل وكان يضربه أحيانًا، رغم كبر سن الوالد وحاجته إلى العناية.
حاول مالك بن دينار نصح الابن العاق، لكنه لم يستجب، بل زاد في عقوقه. وذات يوم، طرد الابن والده من المنزل في ليلة شديدة البرودة، فجلس الوالد المسكين عند باب المسجد يبكي بحرقة. رآه مالك بن دينار، فأدخله المسجد وأكرمه، ثم دعا الله أن يُظهر للابن العاق عاقبة أفعاله.
مرت الأيام، وابتُلي الابن العاق بمرض خطير جعله طريح الفراش، ولم يجد أحدًا يعتني به أو يواسيه، حتى أصدقاؤه هجروه. وعندما اشتد به الألم، تذكر عقوقه لوالده، فأرسل إليه يطلب السماح.
جاء الوالد إلى ابنه، لكنه وجده في حالة يُرثى لها، فقال له: “يا بني، دعوت الله أن يُريك عاقبة عقوقك لي، لكنه رغم ذلك أرحم بك مني. أسامحك يا بني، وأسأل الله أن يعفو عنك.”
لكن الابن مات بعد أيام قليلة، وقد ترك هذه القصة عبرة لكل من يسمعها، لتكون شاهدًا على أن عقوق الوالدين لا يمر دون عواقب وخيمة.
إن الدروس المستفادة هذه القصة، التي نقلها العلماء عن مالك بن دينار، تُبرز كيف أن العقوق يقود صاحبه إلى الشقاء والندم. كما تظهر رحمة الوالدين حتى في أشد اللحظات، حيث يسامحون أبناءهم رغم ما لاقوه من أذى.
قال النبي ﷺ:
“رضا الله في رضا الوالد، وسخط الله في سخط الوالد.” (رواه الترمذي).
قال الشاعر:
أطع الإله كما أمر
واصبر لأمك والأبِ
فكلاهما بك مُنعم
حقًا عليك وواجبِ
وفي أبيات أخرى:
لأمك حق لو علمت كبير
كثيرك يا هذا لديه يسير
فكم ليلة باتت بثقلك تشتكي
لها من جواها أنة وزفير
إن عقوق الوالدين لا يمر دون عواقب وخيمة، سواء في الدنيا أو الآخرة. فالعاق يحرم من بركة الحياة، ويعيش في دوامة من المشاكل والضيق. قال النبي ﷺ:
“كل الذنوب يؤخر الله منها ما شاء إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين، فإن الله يعجله لصاحبه في الحياة الدنيا” (رواه الحاكم).
في الختام بر الوالدين ليس مجرد واجب ديني، بل هو تعبير عن الامتنان والحب لمن ضحوا من أجلنا. إن العقوق ليس مجرد ذنب، بل خيانة لرسالة الإنسانية. فلنتذكر دائمًا أن تعب الوالدين وشقاءهما هو سبب وجودنا ونجاحنا، وأن أقل ما نقدمه لهما هو البر والطاعة، لننال رضا الله ورضاهما.