BBC العربية
في اليوم الثاني من زيارته إلى الرباط، أكد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في كلمة أمام البرلمان المغربي دعم بلاده لـ”سيادة المغرب” على الصحراء الغربية، مشيرًا إلى أن “حاضر ومستقبل الصحراء يندرجان في إطار السيادة المغربية”.
كما أعلن ماكرون عن التزام فرنسا بتقديم استثمارات في المنطقة، إثر إبرام البلدين اتفاقيات بقيمة تقدر بحوالي 10 مليارات يورو. وأكد ماكرون أن موقف “بلاده لا يحمل أي عداء لأي جهة، إنما دعوة للتعاون مع جميع الأطراف الساعية لتعزيز الاستقرار والتنمية” وفق ما نقلته وكالة فرانس برس.
وفي خطوة تهدف إلى تعزيز التقارب بين البلدين، وعلى وقع اعتراف فرنسا بمبادرة الحكم الذاتي للصحراء الغربية، وصل الرئيس الفرنسي إلى المغرب أمس الاثنين، في زيارة تستمر ثلاثة أيام، وتأتي بدعوة من العاهل المغربي الملك محمد السادس.
وقد استقبل العاهل المغربي ضيفه في المطار قبل أن يتوجها معًا إلى القصر الملكي في موكب رسمي. وعُقد بعدها لقاء ثنائي تبعه توقيع اتفاقيات في مجالات متنوعة من بينها الدفاع والأمن والهجرة والطاقة والتعليم.
تبدو الزيارة في ظاهرها بروتوكولية، إلا أنها تكتسب أهمية مضاعفة باعتبارها أول زيارة يقوم بها ماكرون إلى المغرب منذ 2018، فضلاً عن أنها تأتي بعد نحو ثلاث سنوات من التوتر والفتور الدبلوماسي بين باريس والرباط.
آخر زيارة دولة لرئيس فرنسي إلى المغرب تعود إلى 2013 بعهد فرنسوا هولاند. أما إيمانويل ماكرون، فقد زار المغرب أول مرة في 2017 في زيارة عمل ببداية ولايته، ثم عاد إليه في العام التالي لتدشين خط قطار فائق السرعة، لكن الزيارات توقفت بعدها.
سنوات من الفتور
منذ 2018 شهدت العلاقات الفرنسية المغربية تقلبات عدة بين جزر ومدّ، وأزمة وانفراج.
وقد تأثرت هذه العلاقات بشكل كبير بقضية “بيغاسوس” التي تفجرت عقب تحقيقات إعلامية صيف 2021، تضمنت اتهامات للمغرب بالتجسس على مسؤولين فرنسيين، من بينهم الرئيس إيمانويل ماكرون.
ورغم نفي المغرب تورطه حينها، إلا أن القضية تركت آثاراً سلبية على العلاقات بين البلدين، ثم جاء قرار فرنسا في سبتمبر/أيلول 2021 بتشديد شروط منح التأشيرات للمغاربة ليعمّق الخلاف أكثر.
هدأت الأوضاع نسبياً بعد زيارة وزيرة الخارجية الفرنسية السابقة كاترين كولونا إلى المغرب في يناير/كانون الثاني 2022، وإعلانها انتهاء أزمة التأشيرات.
إلا أن الخلافات عادت لتظهر مجدداً في عام 2023 مع اتهامات مغربية لفرنسا بالوقوف وراء تقارير أوروبية تنتقد وضع حرية الصحافة في المغرب، بالإضافة إلى انزعاج الرباط من التقارب الفرنسي مع الجزائر، وطالبت باريس بموقف أكثر وضوحاً بشأن قضية الصحراء الغربية.
والصحراء الغربية هي مستعمرة إسبانية سابقة، تصنفها الأمم المتحدة ضمن “الأقاليم غير المتمتعة بالحكم الذاتي”، ويعتبرها المغرب جزءاً لا يتجزأ من أراضيه ويسيطر على نحو 80 بالمئة منها، ويقترح حكماً ذاتياً تحت سيادته، فيما تدعو جبهة البوليساريو المدعومة من الجزائر إلى استفتاء لتقرير المصير.
الصحراء نقطة التحول في عودة العلاقات
وتصنف الرباط شركاءها وخصومها انطلاقاً من موقفهم تجاه قضية الصحراء، وتثبّت هذا التصنيف أكثر بعد اعتراف إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في نهاية 2020 بسيادة المغرب على الصحراء مقابل التطبيع بين المغرب وإسرائيل.
وعلى مدى عقود، حاولت فرنسا الوقوف على “الحياد” في نزاع الصحراء الغربية، سعياً للحفاظ على سياسة التوازن في علاقاتها مع كل من الجزائر والمغرب.
لكن في 30 يوليو/تموز الماضي، طرأ تحول في الموقف الفرنسي، إذ أعلن ماكرون دعمه لمبادرة المغرب للحكم الذاتي، مُعتبراً إياها “الحل الوحيد” للنزاع، وهذا الموقف أنهى فترة الفتور الدبلوماسي بين البلدين، إذ ظهرت بوادر التقارب بتعيين سفيرة جديدة للمغرب في باريس وتسارع الزيارات الوزارية المتبادلة تمهيداً لزيارة ماكرون.
فما هي أهداف هذه الزيارة ودلالتها؟ وهل أخذت فرنسا ثمن اعترافها بالحكم الذاتي للصحراء؟ وكيف ستؤثر هذه الزيارة على التوازنات بين فرنسا والجزائر؟
أي تأثيرات على التوازن الإقليمي مع الجزائر؟
ومع زيارة ماكرون للمغرب واعترافه بسيادة الرباط على الصحراء، تُطوى صفحة الخلافات بين الرباط وباريس لتثير في المقابل تساؤلات حول تداعياتها على العلاقات الفرنسية الجزائرية، التي لطالما كانت معقدة وصعبة.
وفي هذا السياق، يرى حسني عبيدي الباحث الجزائري وأستاذ العلاقات الدولية في جامعة جنيف، أن ارتدادات الزيارة بدأت تظهر قبل انطلاقها، من خلال سحب الجزائر لسفيرها وتراجع حجم التجارة بين البلدين، بالإضافة إلى توقف ملف الذاكرة .
وملف الذاكرة هو ملف يشمل قضايا عالقة من حقبة الاستعمار الفرنسي للجزائر، مثل الاعتراف بالانتهاكات، واستعادة الأرشيف، ويؤثر على العلاقات بين البلدين.
كما تأتي الزيارة ماكرون للمغرب في وقت تأجلت فيه زيارة الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون إلى فرنسا عدة مرات.
ورغم هذه التوترات، يؤكد عبيدي أن العلاقات بين الجزائر وفرنسا لم تصل إلى مرحلة القطيعة، حيث تسعى الدولتان للحفاظ على العلاقة نظراً للمصالح المشتركة بينهما، بما في ذلك وجود أكثر من مليون جزائري في فرنسا والتبادل التجاري المهم بين البلدين، فضلاً عن “رهان باريس على الغاز الجزائري في سياق تبعات الأزمة الروسية الأوكرانية، وبالتالي، فإن العلاقات، رغم توترها، لا تزال تحتفظ بطابع التعاون بعيداً عن الأزمة الخطيرة”.
ويشير عبيدي إلى أن زيارة ماكرون قد تمثل مكافأة للرباط في إطار تعزيز العلاقات، ويضيف أن “المغرب شعر بخيبة أمل في السابق، خاصة بعد زيارة نصف الحكومة الفرنسية إلى الجزائر العام الماضي، ويبدو أن ماكرون يسعى إلى تحقيق توازن في العلاقة، مفضلاً الآن منح الأولوية للمغرب دون إغفال الأهمية المركزية للعلاقة مع الجزائر”.
مصالحة بأي ثمن؟
لا ينحصر الاهتمام الكبير بزيارة ماكرون في كونها محاولة لإعادة الدفء للعلاقات بين البلدين فحسب، بل يمتد أيضاً إلى السياق الإقليمي والدولي الحساس الذي ترافقه، خاصةً في ظل التحديات السياسية والأمنية المتزايدة في منطقة الشرق الأوسط والساحل الأفريقي.
هذا السياق يضفي على الزيارة بعداً استراتيجياً خاصاً بالنسبة لفرنسا، التي تجد نفسها أمام ضرورة تعزيز حضورها ودورها عبر شراكات تضمن مصالحها في إفريقيا، ولا سيما بعد تراجع نفوذها في المنطقة وتوجه العديد من الدول، مثل مالي لشركاء أمنيين جدد مثل روسيا.
ويرى أستاذ القانون الدولي والعلاقات الدولية بجامعة وجدة خالد الشيات أن المغرب، بفضل موقعه وعلاقاته المتينة في إفريقيا، يمكن أن يلعب دوراً استراتيجياً في إعادة صياغة مصالح فرنسا في القارة، ويعتبر أن “المغرب شريك تاريخي موثوق لفرنسا، إذ ظل ملتزماً بالمنظومة الليبرالية بقيادة الغرب، لاسيما تجاه الولايات المتحدة وفرنسا”.
ويشير الشيات إلى أن المغرب لا يعدّ بوابة حيوية لمنطقة الساحل والصحراء فحسب، بل يتصدر الاستثمارات الأجنبية في عدة دول إفريقية، ليصبح ثاني أكبر مستثمر إفريقي بعد جنوب إفريقيا، مضيفاً أن “فرنسا أدركت أهمية المغرب كشريك استراتيجي بعد استثمارها السابق في الجزائر، مما يمنحه فرصة لتعزيز موقعه، لذا تعكس الزيارة الفرنسية تحولاً استراتيجياً في العلاقات مع تأكيد دعم الموقف المغربي من الصحراء”.
من جانب آخر، يوضح عبيدي أن “فرنسا تعتمد على المغرب في عدة ملفات، بخلاف الجزائر التي تعتبر الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل غير مجدٍ”، موضحاً أن “القضايا الاقتصادية تمثل نقطة مهمة لفرنسا، إذ ترى أن التعامل التجاري مع المغرب أكثر سلاسة من التعامل مع الجزائر”.
مصالح اقتصادية
احتفظت فرنسا بمكانتها كأول شريك اقتصادي للمغرب، حيث تعمل حوالي 1300 شركة فرنسية في البلاد، مع استثمارات بلغت نحو8.1 مليار يورو في عام 2022.
ويفتح تحسن العلاقات الفرنسية المغربية آفاقاً جديدة أمام الشركات الفرنسية التي تأثرت بالخلافات السياسية، مما قد يعزز اهتمامها بالاستثمار في الصحراء الغربية، خاصة في قطاعات الطاقة وتحلية المياه والبنية التحتية.
وتتمتع شركة “ألستوم” المتخصصة في في مجال توليد الطاقة وتأسيس البنية التحتية للسكك الحديدية أيضاً بفرصة قوية للفوز بعقد توريد قطارات جديدة للخط فائق السرعة المزمع إنشاؤه بين مراكش والقنيطرة.
كما يُعد تنظيم المغرب لبطولة كأس العالم عام 2030 بالشراكة مع إسبانيا والبرتغال فرصة استثمارية كبيرة لفرنسا لتقديم خبراتها في البنية التحتية.
ورقة الهجرة والأمن
وتلعب الهجرة دوراً محورياً في العلاقات المغربية الفرنسية، إذ تعتبر باريس الرباط شريكاً استراتيجياً في مواجهة الضغوط الأوروبية للحد من الهجرة غير الشرعية.
ويرى محللون أن من أبرز الأسباب التي دفعت فرنسا وإسبانيا لاتخاذ موقفهما بشأن الصحراء هو “الخشية من استغلال ورقة الهجرة للضغط عليهما، فالأوروبيون يشعرون بقلق كبير حيال الهجرة غير الشرعية، ويراهنون على المغرب للتصدي لها، باعتبارها أقرب دولة لأوروبا”.
في حين يشير محللون آخرون إلى أن توقيف المغرب حوالي 87 ألف مهاجر في عام 2023، يُظهر التزامه بالتعاون الأمني مع أوروبا، إذ تقول السلطات المغربية أنها أحبطت أكثر من 45 ألف محاولة هجرة غير شرعية منذ بداية العام الحالي.
ورغم التقلبات التي تشهدها العلاقات بين المغرب وفرنسا، ظلت الروابط التاريخية والثقافية بين البلدين قوية، حيث تُعتبر الفرنسية اللغة غير الرسمية الأولى في المغرب، كما أن ثوابت السياسة الفرنسية تجاه المغرب لا تتأثر بتداول الرؤساء بين اليمين واليسار، ما قد يعكس استقرار العلاقة بين البلدين.