/العمانية/
مسقط
في 6 يناير /العُمانية/ تصف الفنانة العُمانية المفاهيمية رقية المزار الفن
المفاهيمي بأنه فن لديه القدرة على إثارة التساؤلات الأكثر عمقًا ومحفز للتفكير،
ولكونها فنانة متعددة التخصصات في هذا الفن؛ عرفت بأعمالها في الرسم، التصوير، فهي
عادة ما تعمل من خلاله على استكشاف العلاقة بينها وبين المكان الذي تنتمي إليه،
فمن خلال أعمالها تبرز تعبيرها الفردي ووجودها ضمن السياق الأوسع لبيئتها
ومجتمعها.
وفي
سياق تجربتها الفنية ترشحت “مزار” ضمن القائمة القصيرة لجائزة الفنانين
الواعدين في صالة ستال للفنون بمسقط، حيث عرضت أولى أعمالها التي تناولت أسئلة حول
السعي نحو الحرية الفردية.
تُطلِعنا
رقية مزار على ماهية الفن المفاهيمي والمحفزات التي جعلتها أكثر قربًا من هذا الفن
فتقول: الفن المفاهيمي بالنسبة لي هو وسيلة للتعبير، وعلاقتي بهذا الفن تتجاوز
الشكل والسياقات التي تبدو أكثر تقليدية، فهو بالنسبة لي مساحة حرة تتيح لمخيلتي
التركيز على الفكرة والمضمون، خاصة إذا ما أردت الوصف أن الفكرة هي العمل الفني
بحد ذاته.
وتضيف
“مزار”: من بين النقاط التي جذبتني لهذا النوع من الفن، قدرته على إثارة
تساؤلات أكثر عمقًا كونه محفز للتفكير، سواء ما يتعلق بي كفنانة أو ما يتعلق
بالمتلقِّي نفسه… ربما من أهم المحفزات، إحساسي بأن الفن التقليدي أحيانًا
يقيّدني بأطر معينة، لكن الفن المفاهيمي يمنحني فرصة للتعبير عن شعوري وأفكاري
بطريقة أكثر صدقًا وتحررًا؛ فمن خلاله يمكن استخدام أية وسيلة، متجسدة في النصوص،
والأداء، والخامات، مرورًا بالفراغ نفسه لتوصيل الفكرة، وهذا النهج الذي أعمل عليه
في مشروعي الفني؛ ما يمنحني شعورًا بالتحدي والإبداع في كل مرة أبدأ فيها عمل
جديد، يجعلني أكتشف ذاتي وأبقى في عوالم تقودني للوعي الفني، كما أن هذا الفن فرصة
للتفاعل مع قضايا تتعلق بذات الإنسان وهويته ومجتمعه، وهذا ما جعلني أجِد من خلاله
“ذاتي”، التواقة إلى اكتشاف المجهول فيه، وهذا النوع من الفن في خصوصيته
لا يهدف إلى الإمتاع البصري فقط، بل إلى إيجاد تأثير فكري وعاطفي على المتابع له،
وهو ما يجعلني في سياق محيطه الاستثنائي.
وفي
شأن ما يجعل هذا الفن وتجربتها الفنية الأخيرة في الحدث الفني / رنين/، تقول
الفنانة رقية مزار: أستطيع القول بأن “رنين” حدث هو الأول من نوعه في
سلطنة عُمان؛ فقد حقق نجاحاً استثنائيّاً بفضل الحضور الكبير والتواصل المباشر مع
الجمهور، وهو أمر غير مسبوق في هذا النوع من الفنون، فدعم وزارة الثقافة والرياضة
والشباب كان له أثر واضح، إلى جانب دور المقيمين الفنيين، بمن فيهم ديفيد دريك
وعايشة ستوبي، في اختيار الثيمة وربطها بمطرح (المدينة العمانية التي تحمل تاريخاً
عريقاً وذكريات مشتركة للكثيرين)، فالرؤية الفنية لـ”رنين” كانت تتمحور
حول الذكريات والثقافة العمانية، وتم تقديمها في سياق حي من خلال إعادة إحياء
المنازل الأثرية القديمة التي لعبت دوراً مهمّاً في الماضي، لتصبح اليوم منصات
لنشر الثقافة الفنية، كل فنان قدّم عملاً فنيّاً مرتبطاً بذكرياته الشخصية أو
ذكريات مرتبطة بمطرح؛ ما أوجد جسراً عاطفيًّا قويًّا بين الجمهور والأعمال الفنية،
وإن كان هذا النوع من الفنون جديدًا عليهم.
وتضيف
“مزار”: عملي الشخصي كان مرتبطًا بذكرى عزيزة مع والدتي، عندما كانت
تقوم بتصفيف شعري بضفيرة وتلقي الأهازيج، في جلسة مليئة بالقيم والمبادئ التي غرستها
تلك اللحظات. بالنسبة لي، كانت هذه الجلسة أشبه بتوجيه مقدس بين الأم وابنتها،
تفاجأت بتفاعل الجمهور مع العمل، حيث شاركني الكثير منهم ذكرياتهم المشابهة مع
أمهاتهم أو أخواتهم، مما عزز عمق التواصل بيني وبينهم، أود أن أقول أن
“رنين” لم تكن مجرد فعالية فنية، بل خطوة متقدمة لنشر الوعي الفني في
سلطنة عُمان وتعزيز تقدير الجمهور لهذا النوع من الفنون، مع إعادة إحياء الذكريات
من خلال الفن جعل الأعمال قريبة من القلب، وهو ما أسهم في نجاح الحدث بشكل كبير،
وترك أثراً عميقاً في نفسي كفنانة.
وعن
الكيفية التي يمكن أن يقوم بها الفن المفاهيمي في أن يكون معبرًا عن دوافعنا
الذاتية التي قد تكون أقرب إلى الفلسفية وما لها من وقع خاص في أعماق الفنان،
وقربه من قضايانا الفنية الجوهرية التي تشكل هويتنا وثقافتنا وتراثنا الإنساني
تقول الفنانة رقية: إن للفن المفاهيمي قدرة غير طبيعية ومتفردة للتعبير عن دوافعنا
الذاتية العميقة التي قد تكون أقرب إلى الفلسفية، هذا النوع من الفن يتيح لي
كفنانة مساحة للتأمل والغوص في أعماق الذات، وهنا أقترب من الأسئلة التي لا يزال
لها وقع روحي في أعماقي، والتي قد لا أجد لها إجابة مباشرة، وفي اللحظة ذاتها يمكنني
التعبير عن شعوري الداخلي، من خلال فكرة غامضة، أو حتى صراع شخصي بطريقة لا تتقيد
بالشكل التقليدي للفن. والفن المفاهمي أيضًا وسيلة لإعادة صياغة العديد من
التساؤلات حول الحياة والروح، وإحياء الذكريات، وتحويلها إلى لغة بصرية أو سياق
رمزي يصل إلى المتلقي بطريقة شخصية لهم وقع عميق، إنه بمثابة جسر يربط بين المشاعر
الفردية للفنان وبين القضايا يعيشها الإنسان وتمس الجميع في الوقت ذاته.
وتوضِّح:
فيما يتعلق بالهوية والثقافة والتراث في سياق هذا الفن، فأرى أنه يمكن أن يكون
أكثر قربًا من قضايانا بطرق مبتكرة وغير تقليدية، فأنا بإمكاني أن استخدم الرموز،
والعادات، والقصص الشعبية من التراث الإنساني لإيجاد أعمال تحفز التفكير وتعيد
تفسير تلك العناصر في سياق معاصر، الفن المفاهيمي يمنحنا الحرية لتناول القضايا
العميقة، سواء عن طريق الهوية الثقافية أو العلاقة مع التراث، من منظور جديد، وربط
الماضي بالحاضر، فهذا النوع لا يوثِّق تجاربنا وحدها وإنما يعمل على إعادة
صياغتها؛ ما يسمح بتقديم رؤى جديدة عن أنفسنا وهويتنا للعالم من حولنا، وهذا ما
يجعله قريبًا جدًّا من دوافعنا الذاتية والفنية، فهو وسيلة صادقة للتعبير عن روحنا
الفردية والجماعية.
ونظرًا
إلى أن للجمهور ذائقته الفنية الخاصة في التعامل مع هذا الفن العميق، تشير
“مزار” إلى أسس التفاعل بين الجمهور وهذا الفن، وما إذا كان يتطلب ذلك
مستوىً معيّناً من الفهم أو المعرفة، ومدى أثره في تفكير الجمهور وجعله أكثر وعيًا
بالقضايا التي يطرحها، فتقول: مجتمعنا مثقف ومحب للمعرفة، إلا أن الفن المفاهيمي
يُعد نوعاً جديداً نسبياً، يتميز هذا الفن بتركيزه على الفكرة بصورة أكثر اتساعًا
من الشكل، فهناك أدوات تُستخدم ورموز وبمعانٍ غير تقليدية لتوصيل رسائله المتعددة،
أن فهم هذا النوع يتطلب وعيًا بالفن كوسيلة تعبير، مرورًا بتقدير دوره الثقافي
والإنساني ويبقى الاهتمام بهذا الفن محدودًا إذا ما أردنا قول الحقيقية، فالفضول
هو ما يدفع الجمهور لطرح أسئلة عميقة بشأنه.
وعن
التقنيات التي تستخدمها الفنانة رقية مزار في الفن المفاهيمي، والإسهام الذي تقوم
به الوسائط المتعددة في توصيل الفكرة المفاهيمية للمتلقي، مرورًا باستخدام الذكاء
الاصطناعي في الأعمال الفنية وتأثير هذا الذكاء على العمل الإبداعي، وهنا توضح: في
أعمالي المفاهيمية، أستخدم تقنيات متنوعة تعينني على إيصال فكرتي بوضوح وعمق،
أهمها تقنيات الفيديو الأدائي، الذي أراه وسيلة بصرية قوية تعبِّر عن الأفكار بشكل
مباشر وديناميكي، وأعتمد على الرموز المستوحاة من البيئة والمجتمع، وأحرص على أن
تحمل هذه الرموز معاني أكثر عمقًا تتصل بالقضايا التي أتناولها، فأنا جزء من مجتمع
عربي محافظ، أجد أن بعض القضايا والأسئلة تتطلب جرأة في طرحها، لذا أسعى لاستخدام
وسائل تسهّل توصيل الفكرة بأسلوب بسيط ومؤثر، مع الأخذ باحترام طبيعة المجتمع الذي
أعيش فيه. أما عن الوسائط المتعددة مثل: الفيديو والصوت والنصوص والمجسمات، فهي
تلعب دوراً أساسيّاً في تعزيز أعمالي، هي تمكِّنني من إشراك المتلقي في تجربة حسية
متكاملة، فعادة ما يكون أستخدم الصوت لإيصال المشاعر، والنصوص لتوضيح الأفكار،
والفيديو لإضافة بُعد بصري يجعل الفكرة أكثر حيوية والمجسم تجسد الأفكار غير
المحسوسة.
وتضيف:
بالنسبة لاستخدام الذكاء الاصطناعي في الفن، فأنا لا أتفق مع استخدامه، العمل
الفني “المفاهيمي” بالنسبة لي هو امتداد لتجربة شخصية وهوية وهو أمر لا
يمكن للذكاء الاصطناعي أن يحاكيه مهما بلغت تقنياته. العقل البشري، بذكرياته وعمقه
وقدرته على الإبداع المرتبط بالمشاعر والقصص الإنسانية، لا يمكن أن يُستبدل بأي
تقنية ممكن يستخدم لدعم الأفكار فقط، أن الفن الحقيقي ينبع من الإنسان، من رؤيته
الخاصة للعالم، وهذا ما يمنحه قيمته القادرة على التفاعل.
وأود أن أوضح أن مستقبل
الفن المفاهيمي في ظل التطور التكنولوجي والرقمي، والابتكارات المحتملة التي قد
تشهدها الساحة الفنية المفاهيمية في السنوات المقبلة فهناك فرص واسعة للتجديد
والابتكار، خاصة ونحن نتحدث عن دمج الوسائط التفاعلية مثل الواقع الافتراضي
والذكاء الاصطناعي بطرق تدعم الفكرة بدلاً من استبدال الإبداع البشري، ورغم أن
التطور الفكري في مجال الفن المفاهيمي محليًّا يسير ببطء، إلا أنه مستمر، وهذا
يمنحنا الأمل لبناء وعي أعمق بهذا النوع من الفنون. السنوات القادمة قد تشهد
تحولاً واضحًا في كيفية تفاعل الجمهور مع هذا الفن، حيث تصبح التجربة أكثر شمولاً
وتأثيراً بفضل التقنيات الحديثة.
لكل
مشروع حياة تحدٍّ يواجهه، هنا تشير الفنانة رقية إلى أبرز التحديات التي يواجهها
الفنانون المفاهيميون في إنتاج وعرض أعمالهم المفاهيمية اليوم، والسبل التي يمكنها
التغلب على هذه التحديات لضمان وصول الرسالة الفنية لهذا الفن الحقيقي للجمهور
وتقول: أبرز التحديات تكمن في وعي المتلقي بهذا النوع من الفنون، خاصة في المجتمع
الذي لا يزال غير معتاد على الأساليب المفاهيمية التي تركز على الفكرة والرموز.
خلال تجربتي في فعالية “رنين” وتفاعلي المباشر مع الجمهور، أدركت أهمية
هذا التواصل في كسر الحواجز، حيث أتاحت لي الفرصة لفهم أسئلتهم وتصوراتهم، مما
ساعد في تقريب الفكرة وإثارة اهتمامهم. للتغلب على هذه التحديات، نحن بحاجة إلى
المزيد من الفعاليات الفنية التي تضم الجمهور بشكل مباشر، وتوفِّر مساحة للحوار
والتفاعل، هذه الفعاليات ستعمل على إيصال الفكرة من طرح قضايانا من خلال هذا الفن
للجمهور والتعوُّد على هذا النوع من الأعمال والفنون، كما أن التعليم والتواصل يشكلان
المفتاح لضمان وصول رسالة هذا الفن الحقيقي بشكل فعال.
وفي
ختام حديثها تتطرق “مزار” إلى التدريب والتعليم وما يمكن أن يسهم
به تطور الفن التشكيلي المفاهيمي لدى
الفنان في تنمية المهارات الفنية المفاهيمية وتبيّن: التدريب والتعليم يلعبان
دوراً محوريّاً في تطوير الفن، فالممارسة المستمرة تسهم في تغذية العقل بالفكر
والمعرفة، والإقامات الفنية داخل وخارج محيطنا الجغرافي تعمل على صقل المهارات
وتوسيع آفاق الفنان، فالتفاعل مع الثقافات والتجارب المتعددة يعزز قدرة الفنان على
فهم الرموز وتوظيفها بطرق أكثر ابتكارًا، كما أن دراسة تاريخ الفن والتقنيات
الحديثة، وحضور حلقات العمل والحوارات الفنية المباشرة، من شأنها أن تسرّع عملية
التعلم وتفتح آفاقًا جديدة للإبداع في سياق الفن المفاهيمي.
/العُمانية/ النشرة الثقافية
خميس
الصلتي