BBC العربية
اللحظة الحاسمة اقتربت، والعد التنازلي لدخول المغرب الفضاء الرقمي المالي وصل إلى نهايته مع إعلان البلاد قرب إتمام الإطار القانوني لتنظيم العملات المشفرة، ليكون من أوائل الدول التي تقدم تنظيماً واضحاً لهذه التقنية. اليوم يضع المغرب حجر الأساس لبناء بيئة مالية أكثر “أماناً وشفافية” في عالم يتغير بسرعة.
ومن العاصمة المغربية، الرباط، أعلن محافظ البنك المركزي المغربي، عبد اللطيف الجواهري، في مؤتمر صحفي عقده الثلاثاء، أن المملكة ستصبح من بين أولى الدول التي تقنن وتمنح تراخيص للتعامل بالعملات المشفرة.
وأكد الجواهري أن الإطار القانوني الجديد الذي ينظم استخدام هذه العملات قد تم الانتهاء من تحضيره وأصبح جاهزاً، لكنه اكتفى بالقول إن مشروع القانون جاء ثمرة تعاون بين جميع الشركاء من قبيل القطاعات الوزاراية، والمؤسسات المعنية، فضلاً عن الدعم التقني المقدم من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
وأضاف أن المغرب سيوفر إطاراً قانونياً دقيقاً وشفافاً للمستثمرين والمستخدمين في هذا المجال، مشيراً إلى أن بلاده ستكون من بين الرواد في تنظيم هذا القطاع، لكنه لم يحدد موعداً رسمياً لتقديم المشروع إلى البرلمان لمناقشته.
وكان المغرب حذر في عام 2017 من التعامل بالعملات المشفرة، إذ اعتبرت السلطات أن هذه العملات “غير قانونية” بسبب عدم وجود جهة رسمية تعتمدها، بالإضافة إلى المخاطر المرتبطة بعدم معرفة هوية أصحابه.
“إحياء الدرهم الرقمي”
يبرّر أستاذ الاقتصاد بجامعة محمد الخامس في الرباط، الدكتور زكريا فيرانو، أن هذا التحول في القرار المغربي يأتي استجابة لتغيرات هامة في التعاملات المالية الدولية.
ويوضح في اتصال مع بي بي سي أن المغرب كان يواجه تحديات تتعلق بالمحافظ التي تحتوي على سندات أو عملات مشفرة أو أي أوراق مالية خارج البلاد، حيث كان هذا الأمر غير مقبول من قبل السلطات المغربية.
ويضيف أن موقف بنك المغرب كان يتماشى مع موقف وزارة المالية، وهو ما دفع إلى اعتبار العملات الرقمية غير قانونية داخل المملكة.
وأشار فيرانو إلى أن التغييرات الأخيرة في الإطار القانوني جاءت في وقت يتطلب فيه الاقتصاد المغربي مواكبة التطورات العالمية، وتحقيق توازن بين الحفاظ على الاستقرار المالي وفتح آفاق جديدة للاستثمار.
“المسألة معقدة بعض الشيء، هناك مكتب صرف يتولى مراقبة التعاملات في المحافظ المالية خارج المغرب، وهو ما كان يمثل تحدياً فيما يخص العملات المشفرة التي تعتمد على عملات خارج الإطار القانوني للمملكة”، بحسب فيرانو.
ويشير إلى أن المغرب يتبع نظام سعر صرف “غير مرن” تماماً، حيث يتراوح ما بين (+5 و -5) في تداولاته، ويعتمد هذا النظام على مبدأ العرض والطلب في السوق، مؤكداً أن هذه العوامل، بالإضافة إلى المواقف السابقة لبنك المغرب ووزارة المالية، قد أسهمت في اعتبار العملات الرقمية غير قانونية داخل البلاد.
ومع ذلك، يشير فيرانو إلى أن هناك تحولًا كبيراً في هذا التوجه، إذ يسعى المغرب الآن إلى تسريع دمج العملات الرقمية في النظام المالي، وذلك في إطار تطور تقني مستمر.
وأضاف أن هذا التحول قد يشهد أيضاً إحياءً للدرهم الرقمي، الذي سيكون العملة المشفرة الرقمية الخاصة بالبنك المركزي، بحسب قوله، مرجحاً تداول هذا الدرهم الرقمي بشكل مشابه للعملات النقدية المتداولة حالياً، في إطار مواكبة التحولات العالمية في القطاع المالي.
“فرص جديدة للنمو الاقتصادي”
وفي حديثه عن تأثير تطبيق قرار تقنين العملات الرقمية في المغرب، أشار الدكتور زكريا فيرانو إلى أن هذا التحول سيكون له “تأثير إيجابي كبير” على الأسواق الرقمية.
وأوضح أن اعتماد هذا الإطار القانوني سيعزز ديناميكية أسواق العملات الرقمية في المغرب، ويُسهم في تسريع التعاملات المرتبطة بالعملات المشفرة سواء داخل البلاد أو خارجها.
وأضاف الدكتور زكريا أن إطلاق عملة مشفرة محلية قد يسهم في تقليل الاعتماد على الأوراق النقدية، مما سيدفع باتجاه استخدام أكبر للعملات الرقمية.
وأكد أن هذا التوجه سيؤثر بشكل إيجابي على الشمول المالي، من خلال توفير أدوات رقمية جديدة تسهل الوصول إلى الخدمات المالية، مشيراً إلى أن هذا التحول قد يسهم في تحسين الوضع الاجتماعي، ويقلل من نسبة الفقر، بفضل توفير فرص اقتصادية جديدة وتعزيز الشمول المالي للفئات المحرومة، بحسب تعبيره.
ما المخاطر المحتملة؟
تستخدم العملات المشفرة من قبل العديد من الجهات للتهرب من العقوبات المالية أو الملاحقة، أو بهدف غسيل الأموال، وذلك لأنه لا يمكن تعقب تحويلها، أو على الأقل، يصعب ذلك.
وفي هذا الإطار، أعلنت سلطات الرقابة المالية في المغرب في مايو/أيار 2024 عن تورط رجال أعمال مغاربة ومسؤولين نافذين، بفتح حسابات بمنصات التداول بالعملات المشفرة “بيتكوين” لتهريب الأموال خارج البلاد، تفادياً لرقابة الصارمة على المعاملات المالية التقليدية.
وذكرت صحف مغربية رسميّة آنذاك أنه تم رصد أداءات بالخارج بالعملة المشفرة في فنادق ببعض الدول الآسيوية، وذلك وفق أبحاث أجرتها أجهزة المراقبة من خلال تحويلات تمت من أجهزة معلوماتية بالمغرب.
وبحسب تلك الصحف، فإن التحقيقات قادت إلى عملية رصد تحويلات تتم من المغرب إلى شركات مستقرة بأمريكا اللاتينية وكندا، وهي شركات تعرض خدماتها على الراغبين في تحويل أموالهم إلى العملة المشفرة بغرض تهريبها خارج بلدهم أو بغرض المضاربة.
سألنا الدكتور زكريا فيرانو عن المخاطر المحتملة من اعتماد المغرب العملات الرقمية، فأشار إلى أن تحديد هذه المخاطر يتطلب الاطلاع على النص القانوني المتعلق بتنظيم العملات الرقمية، ويصعب توقعها الآن.
لكنه قال إن بنك المغرب سيلعب دوراً حيوياً في مراقبة هذا السوق، حيث سيتخذ إجراءات حوكمة صارمة للحد من المخاطر المحتملة المرتبطة بالنقد الإلكتروني والتكنولوجيا المالية المرتبطة به.
وأكد فيرانو أن البنك المركزي سيكون المسؤول عن الحفاظ على الاستقرار المالي وضمان الأمان في المعاملات المالية الرقمية داخل المملكة.
وفي إطار التهديدات التي تنذر بها العملات المشفرة، فقد كشفت الوكالة الوطنية البريطانية لمكافحة الجريمة عن شبكة غسيل أموال تعمل عبر 30 دولة، مقرها موسكو، تساعد الجواسيس الروس ومهربي المخدرات على التهرب من العقوبات باستخدام العملات المشفرة.
تقوم الشبكة بتحويل الأموال القذرة (من عصابات الجريمة) إلى عملات مشفرة غير قابلة للتتبع، مما يحمي أرباح الجريمة. كما تم استخدام الشبكة لتمويل الأنشطة التجسسية الروسية.
وفي نوفمبر/تشرين أول الماضي، تم سجن المواطن الروسي-السويدي رومان ستيرلينغوف 12 عاماً لقيامه بغسل 400 مليون دولار من البيتكوين عبر الشبكة المظلمة منذ 2011.
“المستقبل يبدو مشرقاً”
تُعرف العملات الرقمية بأنها مجموعة من العملات الافتراضية التي تُتداول عبر الإنترنت. ورغم أنها غير ملموسة، إلا أن لها قبولاً واسعاً بين المستخدمين والمتداولين في مختلف أنحاء العالم.
وبدأ العديد من التجار والمؤسسات في استخدامها كبديل للعملات التقليدية، وأصبح من الممكن دفع فواتير الشراء والخدمات باستخدامها. كما أن العديد من الأشخاص يفضلون الاستثمار فيها للاستفادة من قيمتها على المدى البعيد.
ولتداول هذه العملات، يتم استخدام تقنيات تشفير معقدة لحماية المتداولين من الاحتيال أو التلاعب. أما عملية تعدين العملات، فهي تشمل معاملات خوارزمية معقدة تتطلب أجهزة متخصصة، وتهدف إلى الحفاظ على قيمتها السوقية.
ومن المهم أن نذكر أنه يتم تحديد كميات محدودة من هذه العملات سنوياً، للحد من تأثير التضخم؛ حيث أن زيادة المعروض منها قد يؤدي إلى تراجع قيمتها.
وهناك العديد من العملات الرقمية التي تندرج تحت هذه القائمة، نذكر منها البيتكوين؛ وهي العملية الرقمية الأولى عالميّاً، إذ بدأ التداول بها عام 2009 وكانت قيمتها أقل من دولار واحد، ويعتقد أن قيمة تداولها بدأت عند $0.10.
لكن، وللمرة الأولى، وصلت قيمة بيتكوين، الأربعاء 11 ديسمبر/كانون الأول 2024، إلى 100 ألف دولار للمرة الأولى، إذ شهدت هذا الارتفاع الكبير قبل أن تسقط إلى ما دون هذا الرقم من جديد، بفضل وعود الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب بأن يتبنى سياسات صديقة للعملات المشفرة خلال ولايته، وأن تصبح الولايات المتحدة “عاصمة العملات المشفرة في الكوكب”.
يعلّق الدكتور زكريا فيرانو على تصريحات ترامب الأخيرة بشأن العملات المشفرة، بالقول إن الأسواق المالية قد وضعت آمالاً كبيرة على العملات المشفرة، معتبراً أن مستقبلها سيكون مشرقاً شريطة عدم الاعتماد على المضاربات المالية.
وأوضح أن النقاشات المستقبلية بين المؤسسات الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، بالإضافة إلى البنوك المركزية، ستتركز على الحد من المضاربات المرتبطة بهذه العملات، باعتبار أنها ليست أسهماً أو عملات مالية تقليدية.
وأشار فيرانو إلى أن الحوكمة والقوانين المرتبطة بالرقابة من قبل البنوك المركزية ستكون جزءاً مهماً من السيطرة على هذه المناوشات في الأسواق المالية.
وأضاف أن “المستقبل يبدو مشرقاً للعملات المشفرة”، خاصة مع اتخاذ الولايات المتحدة خطوات إيجابية في هذا الاتجاه، وكذلك مع اتجاه البنوك المركزية نحو تطوير عملات مشفرة خاصة بكل دولة.
وبعد بيتكوين تأتي عملة الإيثيريوم، ثاني أكبر منصات التداول انتشاراً حول العالم، وتمتاز بأنها من العملات التي تنمو بشكل ثابت.
أما العملة الرقمية التي حافظت على الارتفاع في قيمتها السعرية ببطء وثبات، هي بينانس، التي ظهرت لأول مرة في يوليو/تموز 2017، وتعد واحدةً من الخيارات الاستثمارية الأقل تعرضاً لمخاطر التقلب في السعر، والأكثر استقراراً.
والعملة الأحدث هي تيزوس، ويرمز لها بالرمز XTZ، ظهرت لأول مرة عام 2018، وحققت انتشاراً كبيراً بسبب بدايتها القويّة، إذ سمحت للمستثمرين في البداية بتخزين العملة مع الحصول على أرباح سنوية تتراوح قيمتها ما بين 5 و6 بالمئة.
ومع اقتراب المغرب من تنظيم العملات المشفرة، تظل الأسئلة مفتوحة حول كيف سيؤثر هذا التحول على الحياة الاقتصادية لمواطني المغرب والمستثمرين. ويبقى المستقبل الرقمي للمملكة في أيدٍ مفتوحة، ينتظر تحديد معالمه في قادم الأيام.