BBC العربية
هدد الرئيس الأمريكي المنتخب، دونالد ترامب، باستعادة السيطرة على قناة بنما إذا لم تخفف الحكومة البنمية الرسوم المفروضة على السفن الأمريكية التي تعبر القناة.
وقال ترامب، مؤخراً في تجمع شعبي في أريزونا: “الرسوم التي تفرضها بنما سخيفة. إنها غير منصفة. لابد أن يتوقف هذا النهب لبلادنا فوراً”.
وأثارت تصريحات ترامب غضب الرئيس البنمي، خوسيه راوول مولينو، الذي قال إن “كل متر مربع في القناة والمنطقة المحيطة بها” ملك لبلاده، مضيفاً أن “سيادة بنما واستقلالها غير قابلين للتفاوض”.
فماذا نعرف عن قناة بنما التي هدد ترامب بوضع يده عليها؟ وما أهميتها بالنسبة للولايات المتحدة؟
الموقع الجغرافي وأهميته
تعتبر قناة بنما ثاني أهم ممر مائي صنعه الإنسان بعد قناة السويس، وهي من أعظم الإنجازات الهندسية في القرن العشرين.
تقع القناة في دولة بنما فيما يُعرف بأمريكا الوسطى، وتربط بين المحيط الهادئ ومنطقة بحر الكاريبي والمحيط الأطلسي.
يبلغ طولها 77 كيلومتراً، وتمتد من خليج ليمون في المحيط الأطلسي إلى خليج بنما على المحيط الهادئ، ويقع أضيق جزء منها في معبر غايلارد، بعرض يبلغ نحو 150 متراً، أما أوسع أجزائها فيقع في بحيرة غاتون الاصطناعية، التي تغطي مساحة تصل إلى 422 كيلومتراً مربعاً.
تحيط بالقناة من الجهتين بحيرات عدة مثل بحيرة غاتون، التي تمثل مخزناً رئيسياً للمياه اللازمة لعمل القناة، وتمتاز تلك المنطقة بطبيعة غنية بالغابات المطيرة والتنوع البيئي.
وتتمتع قناة بنما بأهمية استراتيجية كبيرة؛ فقبل إنشائها كانت السفن التجارية مضطرة للإبحار حول الطرف الجنوبي لأمريكا الجنوبية عبر رأس هورن في التشيلي، وهو طريق خطير يضيف نحو 13 ألف كيلومتر إلى الرحلة، ويستغرق من 20 إلى 30 يوماً إضافية حسب الظروف الجوية وسرعة السفن.
ومع افتتاح القناة عام 1914، تقلصت المسافة إلى نحو 8 آلاف كيلومتر، وأصبح الوقت المستغرق لعبورالقناة يتراوح ما بين 8 إلى 10 ساعات. هذا التغيير الجذري أسهم في توفير الوقت والجهد وخفض تكاليف الشحن، مما جعل القناة عنصراً محورياً لا غنى عنه في التجارة العالمية.
الولايات المتحدة أكبر مستخدم للقناة
وتستقبل القناة أكثر من 14 ألف سفينة سنوياً – في مقدمتها السفن الأمريكية والصينية واليابانية – تحمل بضائع تتجاوز قيمتها 270 مليار دولار أمريكي.
وعبر القناة تمر سفن نقل السيارات، وناقلات الغاز الطبيعي، والسفن الحربية، إضافة إلى السفن المحملة بالمنتجات الزراعية مثل الذرة وفول الصويا القادمة من الولايات المتحدة والموجهة إلى آسيا، والبضائع الإلكترونية والسيارات من آسيا إلى أوروبا والأمريكتين.
وتعد قناة بنما شرياناً للاقتصاد والتجارة الأمريكية، حيث أن الولايات المتحدة هي أكبر مستخدم للقناة. وتمثل السفن الأمريكية نحو 73 في المئة من حركة القناة، وتمر 40 في المئة من إجمالي حركة الحاويات الأمريكية عبر القناة كل عام.
ورغم كون قناة بنما أصغر ممر مائي عالمي، إلا أنها حققت إيرادات قياسية بلغت 4 مليارات دولار في عام 2024، وذلك بفضل التوسعات التي تم إنجازها في عام 2016، والتي سمحت بمرور سفن ” نيو باناماكس” العملاقة، مما عزز من قدرتها التنافسية.
أما عن أسباب زيادة رسوم العبور- التي أثارت انتقادات ترامب – فتعود إلى أن القناة تواجه تحديات بيئية مثل انخفاض مستويات المياه نتيجة التغير المناخي، ما دفعها لزيادة الرسوم لمواجهة هذه التحديات.
“النفوذ الصيني يقلق ترامب”
أشار الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب في تصريحاته، السبت الماضي، إلى الصين وقال إن “إدارة القناة تعود لبنما وحدها، لا إلى الصين ولا إلى أي جهة أخرى. لم ولن ندعها أبدا تقع في الأيدي الخطأ”. فمن ماذا يخشى ترامب؟
بحسب موقع “بوليتيكو” الأمريكي، تبدو تصريحات ترامب مرتبطة بمخاوف بشأن زيادة النفوذ الصيني في التجارة العالمية والبنية التحتية الاستراتيجية.
وعلى مدار العقدين الماضيين، عززت الصين من وجودها بشكل كبير في أميركا اللاتينية من خلال الاستثمارات في الموانئ ومشروعات البنية التحتية واتفاقيات التجارة.
ورغم أن الصين لا تسيطر على قناة بنما ولا تديرها، لكن شركة تابعة لشركة “سي كيه هاتشيسون” القابضة، ومقرها هونغ كونغ، كانت تدير منذ فترة طويلة ميناءين يقعان على مدخلي القناة في البحر الكاريبي والمحيط الهادئ.
وفي ظل المنافسة الاقتصادية بين الصين والولايات المتحدة، قد تعتبر قناة بنما ساحة أخرى للصراع بينهما.
وبحسب موقع “بوليتيكو”، لم تصدر عن الصين أي مؤشرات علنية على اتخاذها أي خطوة لشراء القناة أو توسيع نفوذها على عملياتها، وربما تكون تصريحات ترامب استباقية، لمحاولة إثناء الصين عن أي توسع مخطط في أميركا اللاتينية.
فكرة تعود للقرن السادس عشر
بدأت فكرة إنشاء قناة تربط بين المحيط الأطلسي والمحيط الهادئ في القرن الـ 16 عندما اقترح الملك الإسباني، كارلوس الخامس، حفر ممر مائي عبر الأراضي البنمية. ومع ذلك، لم يتحقق هذا الحلم بسبب التحديات التقنية في ذلك الوقت.
وفي أواخر القرن الـ 19، تولت فرنسا مشروع بناء قناة بنما تحت قيادة الدبلوماسي الفرنسي فرديناند ديليسبس، الذي أشرف على بناء قناة السويس.
بدأ العمل في حفر القناة عام 1881، لكنه توقف في عام 1889 بسبب التكاليف الباهظة وتفشي الأمراض مثل الملاريا والحمى الصفراء، التي أودت بحياة نحو 22 ألف عامل.
وبعد فشل المشروع الأول، تم تأسيس شركة فرنسية جديدة عام 1894، لكنها لم تحقق تقدماً يُذكر، واقتصر نشاطها على صيانة الموقع، لتقرر لاحقاً بيع حقوق المشروع للولايات المتحدة مقابل 40 مليون دولار.
وفي عام 1903، وقعت الولايات المتحدة معاهدة مع دولة بنما المستقلة حديثاً آنذاك، سمحت لها بتطوير مشروع القناة. وقضت المعاهدة أن تدفع الولايات المتحدة لبنما جزءاً من إيرادات القناة، وفي المقابل تضمن الولايات المتحدة حياد القناة والسيطرة على الأراضي الواقعة على جانبي القناة.
وبدأت الولايات المتحدة عام 1904 باستئناف العمل، وأرسل الرئيس الأمريكي السابق، ثيودور روزفلت، فريقاً هندسياً لإعادة تصميم المشروع ومعالجة التحديات الصحية.
وخلال الفترة الأمريكية، عمل أكثر من 50 ألف عامل على المشروع، من بينهم عمال من جزر الكاريبي وأوروبا وآسيا. ورغم ظروف العمل القاسية، نجحت التدابير الصحية، مثل مكافحة البعوض وتجفيف المستنقعات، في تقليل عدد الوفيات إلى نحو 5 آلاف شخص.
وفي غضون عشر سنوات من العمل المكثف، افتُتحت قناة بنما رسمياً في 15 أغسطس/آب 1914 مع عبور أول سفينة أمريكية تدعى “إس إس أنكون”.
الصراع على النفوذ والسيادة: اتفاق وغزو
كان النزاع حول السيطرة على قناة بنما أحد أبرز القضايا الجيوسياسية في القرن العشرين.
ظلت القناة تحت السيطرة الأمريكية منذ افتتاحها عام 1914، بناءً على معاهدة عام 1903، التي اعتبر العديد من البنميين أنها تمثل انتقاصاً من سيادتهم الوطنية، مما أدى إلى تصاعد التوترات بين الطرفين.
وفي أعقاب الاحتجاجات الشعبية التي بلغت ذروتها عام 1964، بدأت الولايات المتحدة وبنما البحث عن حلول للنزاع حول القناة.
وفي عام 1977، وقع الرئيس الأمريكي آنذاك جيمي كارتر ورئيس بنما عمر توريخوس معاهدتين تاريخيتين، تُعرفان باسم “معاهدات توريخوس-كارتر”. نصت المعاهدة الأولى على تسليم تدريجي للقناة إلى السيادة البنمية بحلول نهاية عام 1999، أما المعاهدة الثانية فحددت كيفية ضمان حياد القناة بعد نقلها، لتظل مفتوحة أمام جميع الدول.
وخلال الفترة الممتدة بين عامي 1977 و1999، تقاسمت الولايات المتحدة وبنما إدارة القناة بشكل مشترك. ومع حلول 31 ديسمبر/كانون الأول 1999، تسلمت بنما رسمياً السيطرة الكاملة على القناة، منهية بذلك قرناً من النفوذ الأمريكي المباشر على هذا الممر المائي الحيوي، لكن خلال هذه الفترة جرى غزو لبنما من قبل واشنطن.
إذ غزت الولايات المتحدة بنما في 20 ديسمبر/ كانون أول 1989، خلال فترة رئاسة جورج بوش الأب، تحت اسم عملية “القضية العادلة” (Operation Just Cause). جاء الغزو بهدف الإطاحة بالجنرال مانويل نورييغا، الذي كان حليفاً سابقاً لواشنطن ومتهماً بالتورط في تجارة المخدرات وغسيل الأموال. كما بررت الولايات المتحدة التدخل بحماية مواطنيها المقيمين في بنما، وتأمين قناة بنما الاستراتيجية، ودعم الديمقراطية بعد الانتخابات التي زُورت نتائجها لصالح نورييغا، وفق ما قالته المعارضة البنمية آنذاك.
بدأت العملية بهجوم جوي واسع النطاق، تلاه إنزال بري بمشاركة نحو 27 ألف جندي أمريكي وأكثر من 300 طائرة. واجهت القوات الأمريكية مقاومة محدودة من قوات الدفاع البنمية، التي تفككت سريعاً. في الوقت نفسه، تمكن نورييغا من الاختباء، مما دفع القوات الأمريكية لشن حملة واسعة للبحث عنه.
بحلول 24 ديسمبر/ كانون أول 1989، انسحب نورييغا واختبأ داخل السفارة البابوية في العاصمة بنما سيتي. بعد ضغوط دبلوماسية أمريكية، سلّم نورييغا نفسه في 3 يناير/ كانون ثاني 1990 وتم نقله إلى الولايات المتحدة، حيث حوكم وأدين بتهم تهريب المخدرات وغسيل الأموال.
أدت العملية إلى سقوط مئات القتلى، بينهم مدنيون، وأثارت انتقادات دولية واسعة بسبب الخسائر البشرية والتدخل العسكري. ومع ذلك، أسفرت عن إنهاء حكم نورييغا وتمكين الرئيس المنتخب غييرمو إندارا من تولي السلطة، ما مهد لعودة الديمقراطية في بنما.