BBC العربية
انتهت مسيرة لاعب التنس الإسباني رافاييل نادال (38 عاماً) الإستثنائية مساء الثلثاء، بعد خسارة إسبانيا أمام هولندا في كأس ديفيز في ليلة إسبانية مشحونة بالعواطف.
ويعتزل نادال كثاني أنجح لاعب فردي للرجال في تاريخ اللعبة، من حيث عدد الألقاب في البطولات الأربع الكبرى، خلف منافسه الوحيد في السنوات الأخيرة، الصربي نوفاك ديوكوفيتش.
وكان الإسباني الذي فاز بـ 22 لقباً في بطولات التنس الأربع الكبرى، قد صرح من فترة أن البطولة الإسبانية هذه ستكون الأخيرة في مسيرته.
وقال نادال للجمهور بعد نهاية مسيرته الاحترافية التي استمرت 20 عاماً: “الحقيقة هي أن لا أحد يرغب أبداً في الوصول إلى هذه النقطة. لم أتعب من لعب التنس ولكن جسدي لم يعد يريد اللعب بعد الآن وعلى المرء قبول ذلك”. وتابع: “أشعر بامتياز كبير، لقد تمكنت من تحويل هوايتي الى مهنتي لفترة طويلة”.
بقي كثيرون في الملعب الذي يتسع لحوالى 11 ألف و500 شخص بعد انتهاء المباراة وهتفوا “رافا، رافا” لمرة أخيرة. قبل أن يقفوا بحفاوة بالغة عند ظهور نادال مجدداً ليلقي كلمة وداعه ويصفقون له لمدة دقيقة متواصلة.
حاول نادال كبح دموعه بعد انتهاء كلمته المؤثرة، بينما كانت زوجته ميري وابنه رافاييل جونيور ووالديه وشقيقته ماريبيل بين الحضور.
ظهر في الجزء التالي من الاحتفال الوداعي أبرز نجوم التنس ورياضات أخرى، عبر مقاطع فيديو يعبرون فيها عما يعني لهم نادال، وكان بينهم كل من نجوم التنس روجر فيدرر ونوفاك ديوكوفيتش وسيرينا ويليامز وآندي موراي، ولاعبي كرة القدم ديفيد بيكهام وأندريس إنييستا وراؤول، بالإضافة الى لاعب الغولف سيرجيو غارثيا.
“ملك التراب”
فاز نادال، المعروف بلقب “ملك الملاعب الترابية”، بلقب الفردي للرجال في بطولة فرنسا المفتوحة 14 مرة وهو رقم قياسي تاريخي وفاز في 112 مباراة من أصل 116 مباراة كبرى خاضها في رولان غاروس.
لم يفز أي لاعب آخر بهذا العدد من الألقاب في البطولات الفردية الكبرى في البطولة نفسها.
نادال هو أيضاً بطل أمريكا المفتوحة أربع مرات وفاز ببطولتي كل من أستراليا المفتوحة وويمبلدون مرتين.
كما فاز بذهبية الفردي والزوجي في الألعاب الأولمبية وساعد منتخب إسبانيا على الفوز بنهائيات كأس ديفيز (للمنتخبات) أربع مرات، كان آخرها في عام 2019. كما لعب دوراً في انتصار منتخب بلاده عام 2008، على الرغم من أن الإصابة حرمته من الظهور في المباراة النهائية.
“شخص جيد من مايوركا”
عرف نادال خلال مسيرته الطويلة والملهمة بتواضعه وخفة دمه وتصالحه التام مع مشاعره. إذ لم يكن يخفي لا ابتساماته ولا دموعه كثيراً.
نقل نادال هذه الصفات جميعها في كلمته الأخيرة أمام الجمهور حيث قال ممازحاً: “خسرت مباراتي الأولى في كأس ديفيز، وخسرت مباراتي الأخيرة. وهكذا أغلقنا الدائرة”.
وأضاف: “الألقاب والأرقام موجودة وواضحة، ربما يعرف الناس ذلك. ولكن الطريقة التي أود أن يتذكرني بها الناس هي أن يتذكروني كشخص جيد من قرية صغيرة في مايوركا. كنت محظوظاً، كان عمي مدرباً للتنس عندما كنت طفلاً صغيراً جداً وكان لدي عائلة دعمتني”.
وتابع: “كنت مجرد طفل تبع أحلامه، وعمل بأقصى جهد ممكن للوصول إلى ما أنا عليه اليوم.”
مضيفاً بتواضعه المعتاد: “في نهاية اليوم، وبصراحة، يعمل الكثير من الناس بجد ويبذلون قصارى جهدهم كل يوم، لكنني كنت واحداً من الأشخاص المحظوظين الذين استطاعوا الحصول على الحياة التي أعيشها، وأن أحظى بتجارب لا تُنسى”.
طفولة نادال القاسية وعمه توني
نشر نادال سيرته الذاتية بعنوان “رافا” عام 2011، وكتبها مع الصحفي البريطاني جون كارلين. وتضمنت معلومات كثيرة عن نشأته وتدريباته التي بدأها عندما كان يبلغ من العمر 4 سنوات فقط.
كان عمّ الصغير رافاييل، توني، في أحد الأيام، من بين أفضل لاعبي الهواة الإسبانيين الذين شاركوا في البطولات الوطنية. وفي الوقت الذي أكمل فيه رافاييل أعوامه الثلاثة، كان توني أصبح يدرب مئات الأطفال في نادي ماناكور للتنس في جزيرة مايوركا.
وفي مقابلة مع جوناثان جوريكو من بي بي سبورت، اعترف توني الذي بقي يدرب نادال اللاعب المحترف حتى العام 2017، بأنه كان قاسياً جداً على ابن أخيه.
وتقول والدة نادال، آنا ماريا، إن طفلها كان يصل إلى المنزل من حصصه التدريبية مرات عدة وهو يبكي، من دون أن يعترف لها بما كان يزعجه.
وكشف نادال تفاصيل ذلك بعد سنوات في سيرته الذاتية، حيث قال إن عمه كان يصرخ عليه ويحاول إخافته وأنه كان يشعر “بألم في معدته” إذا ما اكتشف أنه سيكون وحده في التدريب معه.
وأضاف أنه إذا فقد تركيزه قليلاً أثناء وجوده في الملعب، كان عمه يرمي الكرات نحوه لجذب انتباهه.
وفي نهاية حصة التدريب، كان توني يصر على أن يقوم نادال بجمع كل الكرات التي كان رماها عليه ويمسح عنها التراب الأحمر، بينما كان الأطفال الآخرون يعودون إلى منازلهم.
وفي حال نسي زجاجة الماء الخاصة به، كان عليه أن يتدرب من دون ماء تحت شمس مايوركا الحارقة.
فاز نادال باللقب الوطني الإسباني للتنس لمن هم دون الـ12 عاماً عندما كان يبلغ 11 عاماً. وعندما أراد الاحتفال بنجاحه، قام عمه بترديد أسماء الفائزين الـ 25 السابقين. ولم يعرف نادال سوى خمسة منهم، وهم أولئك الذين ذهبوا للعب بشكل احترافي.
أراد توني القول لنادال بذلك إنه لم يكن لديه “سوى فرصة واحدة من خمس” لفعل الشيء نفسه.
مثال آخر جاء بعد بضع سنوات عندما عاد نادال، الذي كان يبلغ من العمر 14 عاماً، إلى وطنه من بطولة دولية في جنوب أفريقيا.
يشرح نادال في سيرته الذاتية كيف تم تنظيم حفل عائلي صغير، مع لافتة تحمل رسالة ذات طابع احتفالي، إلا أنه لم تسن له فرصة رؤيتها، إذ مزق عمه توني اللافتة وأنزلها عن الحائط، ومنع نادال من الذهاب إلى الحفلة.
لا بل وضع له حصة تدريبية عند الساعة التاسعة صباحاً من اليوم التالي.
ومن جهته، يقول توني لبي بي سي سبورت: “لقد كنت قاسياً عليه، ولكن لم أكن صارماً جداً. لقد كنت قاسياً من أجل مصلحته الأكبر”.
ويضيف: “كنت مدرباً اهتم بتشكيل شخصية رافاييل وتعزيزها أكثر من تكوينه فنياً”.
إذ كان رافاييل الطفل لا يحب العتمة ويفضل النوم مع الضوء أو التلفزيون مشغلاً وكان يختبئ تحت الوسائد كلما حدثت عاصفة رعدية.
عُرف “رافا” خلال مسيرته لاحقاً بأنه يتمتع بشخصية “الثور الهائج”، التي تتميز بالقدرة على التحمل، والشدة، والقسوة، ورفض قبول تعرضه للهزيمة، وهي شخصية يعتقد بأنه بناها العم توني.
ماذا لو لم يمرض؟
غاب نادال خلال 23 عاماً عن 11 بطولة كبرى بسبب تعرضه لإصابات وحالات صحية مختلفة.
ودائماً ما يسأل كثيرون عما كان سيحدث لو شارك فيها كلها أو على الأقل في بعضها، ولم يخذله جسده عدة مرات خلال مسيرته المهنية.
ما قد لا يعرفه كثيرون، هو أن نادال يعاني من التهاب الوتر الرضفي في كلتا الركبتين منذ أن كان عمره 21 عاماً، مما عرضه لإصابات وأوجاع كثيرة خلال مسيرته، خصوصاً في قدمه اليسرى.
كما يعاني منذ العام 2005، وهو نفس العام الذي فاز فيه بأول لقب بطولة فرنسا المفتوحة، من مرضٍ نادر اسمه “متلازمة مولر فايس”، وهي حالة نادرة تصيب العظم الزورقي أي عظم الكاحل عند البالغين، وهو أحد أهم العظام في قدم الإنسان.
وليس لهذه المتلازمة علاج.
في عام 2022، وفي تصريحات لصحيفتي “آس” و”ليكيب” في ملبورن بعد بطولة أستراليا المفتوحة، قال نادال: “لقد عرفنا منذ عدة سنوات أن هذا غير قابل للشفاء، لذا فإن أي شيء (علاج) جربناه كان مجرد محاولة لتخفيف الألم، كي أتمكن من مواصلة اللعب”.
وفي العام نفسه، فاز نادال بلقبه الرابع عشر في بطولة رولان غاروس في فرنسا، معززاً رقمه القياسي وهو “لا يشعر” في قدمه اليسرى.
وقال: “لم يكن لدي أي إحساس في قدمي، لأن طبيبي حقنني بحقن مخدرة على الأعصاب. وهذا يزيل الشعور في قدمي”.
وأضاف حينها أنه لن يعيد هذه التجربة مرة أخرى وأنه لن يلعب مجدداً مباراة كهذه إذا كان عليه أن يُحقن بالمخدر بهذا الشكل.
ويعتقد كثيرون أن أفضل مباراة لعبها نادال، كانت نهائي بطولة ويمبلدون للعام 2008 أمام غريمه التقليدي روجيه فيدرير، والذي تجمعه به صداقة متينة وملهمة.
وذهب لاعب التنس الأمريكي السابق جون ماكنرو إلى حدّ القول بإنها كانت: “أعظم مباراة لعبت على الإطلاق” في تاريخ اللعبة.