BBC العربية
- عامر سلطان
- مراسل بي بي سي
منذ أن انسحبت بريطانيا من الشرق الأوسط بعد أزمة السويس عام 1956، شُغلت بتحسين صورتها في العالم الإسلامي، والترويج لمشروع تسوية الصراع العربي الإسرائيلي.
وتكشف وثائق بريطانية، حصلت عليها بمقتضى قانون حرية المعلومات، أن مخططي السياسات في بريطانيا حرصوا على “إظهار الاحترام” لمؤسسة الأزهر كأحد وسائل تحقيق هدفيها.
في الثاني من مايو/أيار عام 1997، تولى بلير رئاسة الحكومة بعد فوز العمال في انتخابات تاريخية. وبعد أيام قليلة، دعا جورج كاري كبير أساقفة كانتبيري (كنيسة إنجلترا)، الدكتور محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر، لزيارة بريطانيا رسميا في إطار مشروع حوار الأديان. وصنفت الحكومة البريطانية الضيف والزيارة الرسمية، ضمن الفئة الأولى.
عندما تقرر وقت الزيارة بين يومي 19 و 23 مايو/أيار 1997، كتب دومينيك تشيلكوت السكرتير الخاص لوزير الخارجية، برقية إلى فيليب بارتون، السكرتير الخاص لرئيس الوزراء، عن أهمية استغلال وجود شيخ الأزهر في لندن لتحسين صورة بريطانيا في العالم الإسلامي كله.
وصف بارتون في برقيته، التي لم يطلع عليها سوى عدد ضئيل من كبار المسؤولين والمستشارين البريطانيين، شيخ الأزهر بأنه “أرفع الشيوخ وأكثرهم احتراما في العالم الإسلامي”. وهذا يجعل من وجهة نظر الدبلوماسية البريطانية، لقاء بلير بالشيخ طنطاوي “ولو لالتقاط صورة” أمرا مهما.
وكشفت البرقية عن “حرص” نظام الرئيس المصري الراحل حسني مبارك على ترتيب هذا اللقاء، رغم العلم بانشغال بلير البالغ بالقضايا الداخلية في تلك الفترة.
“فرصة صحفية”
وقال سكرتير وزير الخارجية إن الحرص الرسمي المصري مبرر إضافي لنصح رئاسة الوزراء بأن تفعل “أقصى ما تستطيع لتجد دقائق في جدول أعمال بلير لاستقبال الشيخ الزائر”.
وقال تشيلكوت “التأثير الإعلامي للزيارة في العالم الإسلامي سيتعزز بشكل هائل لو تمكن رئيس الوزراء من تدبير دقائق قليلة لالتقاط صورة في لقاء سريع مع الشيخ”.
ووفق توصية تشيلكوت، فإن “السفير المصري سأل، بشكل خاص، عما إذا كان من الممكن إيجاد هذه الفرصة الصحفية”.
في تلك الفترة، دأبت إدارة الأزهر على مساندة الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، خاصة القدس، عبر البيانات الرسمية والسماح بمظاهرات احتجاج، في ساحات الأزهر وجامعته، على سياسات إسرائيل تجاه المسجد الأقصى والشعب الفلسطيني.
وأثار موقف الأزهر انتقادات من جانب أنصار إسرائيل في بريطانيا، ما جعل البريطانيين يتحسبون لرد فعل هؤلاء على استقبال بلير للشيخ طنطاوي، خاصة في ظل انشغال الإدارة الجديدة، في لندن، بترتيب أوضاعها.
منفعة ومجازفة
غير أن الوثائق تكشف أن تقييم وزارة الخارجية انتهى إلى أن المصلحة التي سوف تتحقق من مثل هذا الاهتمام بزيارة شيخ الأزهر تفوق أي رد فعل سلبي يمكن توقعه حتى من جانب أنصار إسرائيل في بريطانيا.
وقال سكرتير الوزير: “الجانب السلبي المحتمل الوحيد هو أن الشيخ قد أصدر في الماضي بعض البيانات حادة اللهجة عن الاحتلال الإسرائيلي للقدس. وهناك فرصة ضئيلة لأن يستعيد اللوبي الموالي لإسرائيل مثل هذه البيانات. غير أننا لا نعتقد أن هذه مجازفة جسيمة”.
وخلصت الدبلوماسية البريطانية إلى أن “المنفعة المتحققة في العالمين العربي والإسلامي تتجاوز هذه المجازفة إلى حد بعيد”.
لم تكن الخارجية وحدها الداعية بقوة للقاء بلير وطنطاوي.
تكشف الوثائق أن بارتون، سكرتير بلير، استشار الدائرة المقربة من رئيس الوزراء الجديد، ومن بينهم ألستير كامبل والبارونة سالي مورجان، مستشارا بلير لشؤون الاتصالات، بشأن توصية وزارة الخارجية. ونصح الاثنان بأن هذا القاء السريع بشيخ الأزهر سيحمل أبعادا سياسية داخل المملكة المتحدة من شأنها تقوية العلاقة بين الحكومة والمسلمين.
“رسالة من نظام مبارك”
وفي توصيته إلى بلير، قال بارتون: “سالي وألستر حريصان على أن ترى الشيخ لأن هذا سوف يكون له أثر جيد على العلاقة مع المجتمع المسلم هنا، وكذا في العالم المسلم عموما. لذا، فإننا دعوناه من أجل التقاط صورة في الساعة 6.10 مساء غد”.
تبع بلير النصيحة. والتقى رغم انشغالاته الضاغطة، لمدة 5 دقائق بالشيخ طنطاوي يوم 20 مايو 1997.
وأوجز بارتون ما دار في اللقاء قائلا: “انتهز الشيخ الفرصة لتهنئة رئيس الوزراء بنتائج الانتخابات. وقال رئيس الوزراء إنه تشرف بأن يتلقي بالشيخ، وتمنى له إقامة سعيدة في بريطانيا. وعبر الشيخ عن أمله في أن تتحسن العلاقات بين بريطانيا ومصر تحت قيادة رئيس الوزراء، ثم أهدى رئيس الوزراء كتابا عن الأزهر في صندوق مزين بنقوش”.
وذيَّل السكرتير الشخصي لبلير موجزه بالتعليق التالي: “بدا الشيخ سعيدا حقا بأن رئيس الوزراء وجد وقتا وكلف نفسه عناء استقباله”.
بعد قرابة عام، دعُي رئيس الوزراء البريطاني إلى زيارة مصر رسميا.
ورغم جدول الزيارة المكتظ باللقاءات والمناسبات، خاصة الاقتصادية، أصر مستشارو بلير على ضرورة أن يزور الأزهر ليلتقي بشيخه.
وتمت زيارة بلير لمصر يومي 17و 18 أبريل/نيسان عام 1998، ضمن جولة كانت هي الأولى له إلى الشرق الأوسط، شملت السعودية، والأردن، وإسرائيل، وغزة حيث التقى بالزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات.
وفي تقرير معلوماتي عن الشيخ، قُدم إلى مكتب بلير، وصفت الخارجية البريطانية تعيين طنطاوي شيخا للأزهر ، الذي كان سابقا مفتيا لمصر، بأنه “لقي ترحيبا من جانب المسلمين المعتدلين”.
وعن أدائه في دار الإفتاء، قالت الخارجية البريطانية: “كان يساير سياسة الحكومة في قضايا مثل الحد من المواليد”. غير أنها أشارت إلى أنه “أبدى بعض الاستقلال في معارضة ضريبة الأيلولة (الميراث) عام 1989”.
وأبدى تقرير الخارجية البريطانية اهتماما بفتوى طنطاوي، التي حلل فيها فوائد البنوك في شهر سبتمبر/أيلول عام 1989. وجاء في التقرير أن “الجماعات الإسلامية رأت أن الفتوى صدرت بإيعاز من الحكومة”.
وأشار إلى أنها “أثارت جدلا واسعا”. وقالت الخارجية إن “طبيعة (الفتوى) الليبرالية واجهت معارضة من جانب (هيئة كبار) علماء الأزهر، الأكثر محافظة بمن فيهم شيخ الأزهر في ذلك الوقت”، في إشارة إلى الشيخ جاد الحق علي جاد الحق.
مشروع “لا يخالف الإسلام”
وفي تبريره للإصرار على زيارة بلير للأزهر، قال فريق إعداد الزيارة إن “الاجتماع مع شيخ الأزهر الأكبر، الذي ينظر إليه غالبا على أنه أكبر شيخ في العالم السني، وقوة للاعتدال، يستهدف إظهار احترامنا للإسلام، واهتمامنا بالحوار بين الثقافات”.
ووفق المراسلات السرية البريطانية، فإن “مستشاري بلير سعوا إلى إعطاء المسلمين انطباعا بأن بريطانيا على وفاق مع الأزهر، ما قد يفيد في استغلال سمعة المؤسسة العريقة في إقناع عوام المسلمين بأن مشروع تسوية الصراع العربي الإسرائيلي لا يخالف الإسلام”.
وتشير الوثائق إلى أن طنطاوي أكد لبلير رفض الإسلام للظلم والإرهاب والاستيلاء على أراضي الآخرين.
وحسب محضر اللقاء، الذي كتبه سكرتير بلير الشخصي، فإن شيخ الأزهر أكد أن “الإسلام يدعو إلى العدالة والحقوق للجميع، ويعارض الظلم والإرهاب والاستيلاء على الأرض وبناء مستوطنات عليها. وأن الإسلام يقف دائما مع المقهورين الذين لا يحصلون على حقوقهم كاملة”.
أما بلير، فقد تجنب الرد على كلام شيخ الأزهر. وركز، وفق محضر اللقاء، على الحوار بين الأديان، وخاصة بين الأزهر وكنيسة إنجلترا. وقال: “التفاهم الأكبر بين الأديان يؤدي إلى تفاهم أكبر بين الشعوب”.
وكشف بليرـ بعد عودته من زيارته للقاهرة عن اعتقاده بأهمية الأزهر في محاولته إقناع كبير أساقفة كانتبري بأن يُعجل بزيارة مصر، تلبية لدعوة أبلغه الشيخُ طنطاوي بأنه وجهها للأسقف، وينتظر تلبيتها.
فقد بعث بلير بخطاب رسمي إلى كاري يتحدث فيه عن الدعوة وتأييده الشخصي للحوار الذي قال شيخ الأزهر إنه يباشره مع كبير الأساقفة وغيره.
وعن لقائه مع طنطاوي، قال بلير لكبير الأساقفة “كان لنا نقاش مثير جدا عن الدين وطبيعة الإسلام”.
وتعبيرا عن الأهمية واهتمام حكومته بتلبية كاري لدعوة طنطاوي، كتب بلير بخط يده على الخطاب يقول: “أعتقد أن لقاء دينيا كهذا سيكون مساعدا للغاية لعملية السلام في الشرق الأوسط“. وأبدى بلير حرصا على النقاش مع كبير الأساقفة في هذا الموضوع. وقال له “إن أردت التحدث بالتفصيل عن ذلك، لك أن تتصل بي”.
منذ ذلك الوقت، لم تتوقف لقاءات السياسيين البريطانيين مع شيخ الأزهر، طوال فترة رئاسة بلير للحكومة البريطانية.
وفي عام 2000، أوفد بلير وزير خارجيته آنذاك، روبين كوك، إلى القاهرة لإجراء مباحثات مع مبارك بشأن عملية السلام في الشرق الأوسط وأزمة العراق. ورغم أن الزيارة لم تستغرق سوى يوم واحد، فإنه حرص على لقاء شيخ الأزهر.
وفي عام 2002 زار طنطاوي لندن مرة أخرى واستقبله بلير في مكتبه.
وفي عام 2006، زار بلير القاهرة وكان لقاؤه بالإمام الأكبر وشيوخ الأزهر ضمن أولويات الزيارة.