راشد البلوشي
صحفي وكاتب عماني
القاهرة التي أمضيت فيها سبعة أيام كانت بمثابة كتاب إختزلته في ذاكرتي كلما فتحت صفحته تذكرت الإماكن وما تحتويه من أشياء رائعة جميلة.قلبت صفحته الأولى “اليوم الاول” من نزولي الفندق، لمحت في شارع رميس المزدحم، حيث تتزاحم السيارات والمارة، رجل طاعن في السن يجلس على الرصيف بجوارالفندق.
كان يعرض بضاعته البسيطة على طاولة خشبية مهترئة،علب سجائر، وأقلام، وبعض الكتب القديمة، تحمل عناوين وأسماء معروفه في عالم الروايات والقصص. أقتربت منه وألقيت عليه السلام نظرَ إلي بإبتسامة مصرية جميلة دخلت السرور في نفسي ،من ملامحه يبدو رجل تجاوز السبعين، وجهه محفور بالتجاعيد التي تحكي قصص الزمن، وعيناه تحملان بريقًا من الأمل رغم قسوة الحياة.
دار بيني وبينه حديث قصير يحمل في طابعه الود والمحبة حاولت أسبر أغوار حياته وقصته مع هذا الصندوق الخشبي.تبسم ضاحكا والسعادة تملئ محياه وقال…(كل صباح، أحمل صندوقه الخشبي وأضعه أمام هذا الفندق، حيث يمر السائحون ورجال الأعمال، بعضهم ينظرون إلي بشفقة، وآخرون يعبرون دون إكتراث.
لم أكن متسول، بل أبيع، بكرامة رجل، لم أعرف الإستسلام يومًا.عند المساء، وبعد ساعات طويلة من الوقوف والنداء على بضاعتي، أجمع ما أجنيه من قروش وأعود إلى بيتي في هذا الحيّ المتواضع. هناك، زوجتي وأحفادي الصغار ينتظروني، وكلهم شوق إلى ما سأحمله لهم. ربما كيس خبز، وربما قطعة حلوى لأصغر أحفادي، الحمد لله دائمًا عند عودتي الى البيت حامل المحبة والرضا.)كان العجوز مستندًا إلى الجدار، ظهره محني قليلاً كأنه يحمل ثقل السنين على كتفيه. عيناه، الغارقتان في الظلال، تراقبان المارة دون أن تلتقي نظراته بأحد، وكأنه صار جزءًا من هذا المكان، منسيًا بين ضجيج الشارع وأضواء المدينة.كان يرتدي معطفًا قديماً، تآكلت أطرافه من كثرة الإستعمال، وقبعة عتيقة بالكاد تخفي شعره الأبيض المتناثر.
يداه اللتان نحتتهما الأيام بخشونة ظاهرة، تتشابكان في حجره كأنه يقبض على شيء لا يريد أن يضيع ربما ذكرى، ربما حلمًا قديمًا لم يكتمل.من حين لآخر، يطلق تنهيدةً طويلة، وكأنه يزفر معها تعبه، ثم يرفع رأسه قليلًا ينظر إلى صندوق بضاعته أمامه، يتحسس جيبه، يتحقق من القروش القليلة التي جمعها. ومع ذلك، رغم الوهن الذي يبدو عليه، كان في عينيه بريق خافت بريق رجل لم يكسر الفقر عزته، ولم تسلبه الحياة كبرياءه.
أكملت مشواري المسائي في شارع رمسيس لأقلب صفحات كتاب حياة الإنسان المصري صاحب الإرادة والعزيمة والرغبة في العيش باحثا عن قوت يومه عائد الى منزله بماقسمه الله له من رزق.